رهان رفح- نصر وهمي لإسرائيل أم هزيمة وجودية؟

في الأسابيع القليلة الماضية، تصاعدت وتيرة الحديث عن "الهزيمة" على لسان العديد من المسؤولين الإسرائيليين، وانضم إليهم في هذا السياق شخصيات غربية بارزة. تتداول الألسن بشكل متكرر سيناريو الانكسار المحتمل، في الوقت الذي تواصل فيه آلة القتل الإسرائيلية، بدعم غربي لا يخفى على أحد، إزهاق أرواح الفلسطينيين الأبرياء، وتدمير مدنهم وقراهم ومخيماتهم، وتهجير أغلبيتهم قسرًا تحت وطأة التجويع والعطش ونقص الإمدادات الطبية والعلاج.
نهاية مأساوية
إن المسؤولين الإسرائيليين يستغلون "هاجس الهزيمة" لنشر الذعر بين مواطنيهم من هذه النهاية المأساوية المحتملة لجيشهم. يسعون بذلك إلى إسكات الأصوات المعارضة لاستمرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في حربه، بل وتبريرها، ليضمن بذلك الإفلات من العقاب، سواء بسبب خسارة الحرب أو بسبب قضايا الفساد والخلافات السياسية الداخلية المتراكمة التي تلاحقه.
ومع ذلك، لا يمكن إخفاء حقيقة الشعور بالهزيمة الذي يتملك العديد من الإسرائيليين، وذلك بسبب عجز جيشهم حتى الآن عن تحقيق الأهداف المعلنة. صحيح أن الجيش قد ألحق دمارًا واسعًا في غزة، وأزهق أرواح الآلاف وأصاب عشرات الآلاف، لكن هذا لا يعتبر نصرًا في نظر الإسرائيليين الذين اعتادوا على رؤية جيشهم يدمر ويقتل ويصيب الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية على مدار عقود طويلة دون تحقيق غاياته.
فالنصر في نظر الإسرائيليين لا يقتصر على تحقيق الأهداف المباشرة للحرب، وعلى رأسها استعادة الأسرى دون اللجوء إلى المفاوضات، والقضاء على حركة حماس أو على الأقل تدمير قدراتها وإجبارها على الاستسلام، أو اعتقال كبار قادتها، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، وهو أن يستعيد جيشهم هيبته وقدرته على تحقيق أهدافه المعلنة، والأهم من ذلك أن يحافظ على قدرته على الردع والتخويف، ليظل مصدر رعب لجميع الجيوش المحيطة بإسرائيل وفصائل المقاومة في فلسطين ولبنان وغيرها.
خسائر فادحة في الروح المعنوية
يدرك نتنياهو هذه الحقيقة، ولكنه يبدو عاجزًا عن تحقيق هذا "النصر" الذي يراود أحلام الإسرائيليين. ومع ذلك، لا يستطيع الاعتراف بهذا العجز، ولذلك لا يجد أمامه سوى المراهنة على شن هجوم على رفح، مدعيًا أنها المعقل الأخير لحركة حماس أو أنها المكان الذي يختبئ فيه قادة المقاومة. ويعمل باستمرار على ترويج هذه الفكرة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
تبدو رفح، وفقًا للتصور الإسرائيلي، هي نقطة التحول الحاسمة والمعركة الفيصلية. وتدرك المقاومة من جانبها هذا الأمر، وتضع نصب عينيها مسألة أخرى تتعلق بالتهديدات المستمرة بإجبار الفلسطينيين – الذين اكتظت بهم رفح ومحيطها، وحتى على مقربة من الحدود المصرية – على النزوح القسري.
وتدرك المقاومة أن تحقيق هذا السيناريو الكارثي سيرضي الإسرائيليين ويجعلهم يتجاهلون الخسائر الأخرى التي تكبدها جيشهم، ويتغاضون عن عجزه عن تحقيق الأهداف التي حددها للحرب منذ البداية.
إن شن إسرائيل هجومًا على رفح ليس بالأمر الهين، إذ يواجه العديد من العراقيل، أولها الاكتظاظ السكاني الشديد في هذه المنطقة الضيقة، مما يزيد من احتمالات وقوع مجازر مروعة. ورغم أن الجيش الإسرائيلي قد لا يكترث بهذه الاحتمالات تحت ذرائع دينية وعسكرية، إلا أن الساسة الإسرائيليين وقادة الرأي العام يدركون تمام الإدراك أن مثل هذه الجرائم ستزيد من الانتقادات الدولية اللاذعة الموجهة إلى إسرائيل، والتي تسببت على مدار أيام الحرب في خسائر معنوية فادحة، وعلى رأسها تشويه الصورة الوردية التي رسمتها تل أبيب لنفسها على مدار عقود.
رفض قاطع وإنذار شديد
وفي الوقت نفسه، يرى الحليف الرئيسي لإسرائيل في هذه الحرب – الولايات المتحدة الأميركية – أن أي عمل عسكري غير مدروس أو محدد المدة والمسار في رفح من شأنه أن يزيد من التكلفة التي تتحملها إدارة الرئيس الأميركي، في ظل إدراكها لتأثير الدعم المطلق لإسرائيل في حربها على شعبية جو بايدن، الذي يستعد لخوض انتخابات رئاسية صعبة بعد حوالي تسعة أشهر. وتشير استطلاعات الرأي ومواقف بعض أركان الإدارة والحزب الديمقراطي، بالإضافة إلى آراء الخصوم السياسيين من الحزب الجمهوري، إلى هذه المسألة بوضوح.
قد يبدو نتنياهو ظاهريًا غير مكترث بشيء سوى مصلحته الشخصية الضيقة، ولكن في الواقع، فإن تأثير الإدارة الأميركية على القرار الإسرائيلي كبير ولا يمكن لتل أبيب تجاهله إلى الأبد. وإذا لم يكن هذا التأثير قادرًا على تغيير القرار أو إيقافه، فإنه على الأقل يفرض قيودًا عليه في بعض الأحيان.
وينطبق الأمر نفسه، ولكن بدرجة أقل، على موقف حلفاء إسرائيل من الأوروبيين، الذين يواجهون مظاهرات مستمرة في بلدانهم ترفض استمرار الحرب وتنتقد بشدة قتل المدنيين وإصابتهم بهذا الشكل المروع، وتعترض أيضًا على تهجير سكان قطاع غزة من خلال القتل وتدمير مقومات الحياة والتجويع والعطش والحرمان من العلاج.
وهناك أيضًا ثقل للدول العربية التي ترفض تهجير سكان قطاع غزة وتعتبر أن الهجوم البري على رفح قد يجعل التهجير أمرًا واقعًا. وهذا الثقل لا يخلو من اعتبار في ظل إدراك مصر أن اجتياح رفح الفلسطينية يعني ببساطة انتهاك تل أبيب لمعاهدة السلام التي أبرمتها مع القاهرة في عام 1979.
وقد عبر مسؤولون مصريون عن موقفهم هذا مرارًا وتكرارًا من خلال التصريحات والمداخلات أو في المباحثات واللقاءات الدولية أو خلال المرافعة التي قدمتها مصر أمام محكمة العدل الدولية قبل أيام، والتي تضمنت تحذيرًا صارمًا من مسألة التهجير.
ضغوط متزايدة عسكريًا وسياسيًا
في الإطار ذاته، تضع إسرائيل نصب عينيها موقف المملكة العربية السعودية الرافض لمهاجمة رفح، وما يترتب عليه من إلحاق ضرر بالغ بالشعب الفلسطيني، سواء بالقتل أو التهجير القسري. فقبل اندلاع الحرب، كان هناك حديث جدي عن قرب تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، وهذا المسار، وإن توقف مع اندلاع الحرب، فإن أمل الإسرائيليين ومن خلفهم الإدارة الأميركية في استئنافه لم ينقطع.
زد على ذلك أن اجتياح رفح قد يزيد من الضغوط على إسرائيل، عسكريًا من الجبهتين اللبنانية واليمنية، أو سياسيًا من دول عربية وإسلامية وأخرى في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وجميعها ترفض استمرار العدوان وتعارض بشدة إخراج الغزيين قسرًا من أرضهم.
إلا أن هذه القيود، على أهميتها، قد لا تشكل الثقل الكافي لتقييد حركة نتنياهو، الذي يبدو مستعدًا للتضحية بكل شيء في سبيل الحفاظ على منصبه كرئيس لوزراء إسرائيل أو تأجيل محاسبته، خاصة أنه نجح في إقناع شريحة واسعة من الإسرائيليين بأن معركة رفح تمثل منعطفًا حاسمًا ليس فقط في مسار الحرب نحو النصر أو الهزيمة، بل في تاريخ إسرائيل بأكمله، التي ترى نفسها تخوض في غزة حربًا وجودية.
